أزمة كولومبيا- عناد بيترو والانقسامات الداخلية تهدد اليسار

ربما يتبادر إلى ذهن البعض، وبسرعة خاطفة، أن الصعوبات الجمة التي تواجهها حكومة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو في الآونة الأخيرة، هي نتيجة مباشرة لجرأته في معارضة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. لكن الحقيقة، على عكس ذلك تمامًا، تحمل في طياتها أبعادًا أخرى أكثر تعقيدًا.
حتى المقربون من الرئيس بيترو يتساءلون بذهول، هل سيجد الرئيس ترامب في نفسه العناء الكافي للقضاء على طموحات زعيمهم في الفوز بولاية رئاسية جديدة في كولومبيا؟ أم أن الرئيس الكولومبي نفسه سيقضي على مستقبله السياسي وعلى تطلعات التيار اليساري بأكمله؟ هذا التساؤل يطفو على السطح بعد سلسلة استقالات هزت أركان الحكومة، حيث استقال ثلاثة وزراء دفعة واحدة، وثلاثة آخرون خلال هذا الأسبوع، احتجاجًا على ما وصفوه بـ "عناد" الرئيس بيترو وإصراره على مواقف معينة. ويبدو أن المزيد من الاستقالات تلوح في الأفق، لنفس السبب.
الظروف التي أدت إلى هذه الاستقالات المتتالية تسلط الضوء على عدم حكمة الرئيس بيترو في اتخاذ بعض القرارات التي وُصفت في كثير من الأحيان بأنها قرارات متسرعة أو مندّفعة. على سبيل المثال، فاجأ الرئيس وزراءه بشكل غير متوقع، عندما قرر بث اجتماعهم على الهواء مباشرة لمدة ست ساعات متواصلة، أراد من خلالها أن يُطلع الشعب الكولومبي بشفافية مطلقة على سير عمل الحكومة وتطوراتها. إلا أن هذه الخطوة الجريئة أتت بنتائج عكسية تمامًا، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن وجود انقسامات عميقة داخل الدائرة المقربة من الرئيس، وعن خلافات متنامية بينهم؛ وذلك بسبب إصرار الرئيس بيترو على الاحتفاظ بشخصيتين مثيرتين للجدل من خارج التيار اليساري، بل ومنحهما صلاحيات أوسع.
ما يزيد من تعقيد أزمة الرئيس بيترو في كولومبيا، هو تصاعد وتيرة الانتقادات الحادة والممنهجة التي يشنها التيار اليميني وأذرعه الإعلامية، التي استعادت جزءًا كبيرًا من ثقة الرأي العام، من خلال التركيز على ما يعتبرونه أخطاء وهفوات الرئيس. وقد ازدادت هذه الانتقادات حدةً، خاصةً مع بداية أحداث "طوفان الأقصى"، واتخاذ الرئيس موقفًا واضحًا وصريحًا يجرم الحكومة الإسرائيلية ويطالب بمحاسبتها، وهو موقف يتعارض مع المزاج العام للكثير من الكولومبيين.
نجحت تلك الآلة الإعلامية اليمينية في ترسيخ صورة سلبية للرئيس بيترو في أذهان الأغلبية، حيث وصفته بـ "الفاشل" و"الفاسد" وغيرها من النعوت المسيئة والجارحة. ورغم محاولات أنصاره الدفاع عنه والتصدي لهذه الحملات المغرضة، إلا أن انكشاف بعض التفاصيل الداخلية للحكومة وخلافات الدائرة المقربة من الرئيس، أضعف حماس هؤلاء الأنصار، خاصةً مع حالة الانسداد السياسي التي يشهدها البرلمان، وتعطّل أغلب مشاريع القوانين التي تقدمت بها الرئاسة.
أكدت تصريحات بعض الشخصيات اليسارية البارزة خلال الاجتماع الوزاري "المشؤوم"، أن الأزمة التي تعصف بالحكومة هي أزمة داخلية، وأن الرئيس بيترو نفسه يمثل أحد أسبابها الرئيسية. وكشفت النقاشات العلنية التي بُثت على الهواء مباشرة، عن وجود مواجهات حادة بين الرئيس والوزراء، كانت مُتوارية خلف الكواليس حتى وقت قريب. كما أظهرت حجم الصراع الأفقي بين الوزراء، واستعداد الرئيس للتضحية ببعض الأسماء المقربة جدًا منه، في سبيل الحفاظ على شخصيتين "دخيلتين" على قائمة "رفاق النضال".
الشخصية الأولى المثيرة للجدل هي "لاورا سارابيا"، الذراع اليمنى للرئيس بيترو، والتي تنحدر من خلفية عسكرية ولا تملك خبرة سياسية تذكر. عيّنها الرئيس بيترو مديرة لمكتبه الخاص منذ توليه منصبه في صيف عام 2023، ثم أبعدها عن الأضواء لبضعة أشهر، لانشغالها بتسوية قضايا خاصة بها مع الشخصية الثانية التي سيأتي ذكرها لاحقًا. ثم عادت سارابيا لتتولى وزارة التنمية الاجتماعية، وبعدها منصب المديرة العامة لمؤسسة الرئاسة. والآن، يفاجئ الرئيس الجميع بمنحها منصب وزيرة الخارجية، بعد يومين فقط من اندلاع أزمة دبلوماسية مع إدارة البيت الأبيض.
يبدو أن هذه "المكافأة" الأخيرة لسارابيا، كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر رفاق الرئيس، وأثارت غيرتهم من هذه الشابة التي لا تملك أي ميزة نضالية تذكر، سوى أنها كانت الرقم الثاني في تنظيم الحملة الانتخابية للرئيس، كصفقة تجارية بحتة. وبات الرئيس "أسيرًا" لها ولهذه الشخصية الثانية، منذ فوزه بالانتخابات.
بينما يرى أعضاء حكومة بيترو، أن سارابيا تبقى شخصية "غريبة" عن خلية النضال العريقة، ولا تستحق كل هذه "الحظوة" لدى الرئيس، ترى المعارضة أن تعيين هذه الشابة الثلاثينية على رأس وزارة بحجم الخارجية هو دليل على "إفلاس" الرئيس بيترو، وعدم تقديره للظروف الجيوسياسية الحساسة التي تمر بها البلاد والمنطقة والعالم، خاصةً مع فوز الرئيس ترامب وإعلان الصين وكولومبيا عن تدشين خط تجاري بحري يربط موانئ شنغهاي في الصين، بميناء بوينافنتورا غرب كولومبيا، على خلفية التطورات الأخيرة في القرارات الأميركية الصينية بشأن قناة بنما.
تجلت الخلافات التي لا تبشر بانفراج، بين الوزراء وسارابيا، حين انفجرت نائبة الرئيس فرانسيا ماركيز غضبًا، واشتكت من أن سارابيا لا تحترم أحدًا، ولا تحترمها حتى هي كنائبة للرئيس، بسبب الامتيازات الكبيرة التي منحها لها الرئيس. وهو ما أكده أغلب الوزراء، بل وصل الأمر بأحدهم إلى نعتها بالكاذبة والخبيثة على الهواء مباشرة.
كانت اللحظات التي كُشف فيها الغطاء عن شخصية سارابيا، مثيرة لغضب عارم. لكن موقف الرئيس كان أكثر استفزازًا، حيث واجه تلك الزوبعة بالقول إنها مجرد خلافات شخصية، أدت إلى خلق "أحلاف" داخل الجسم الواحد. وهو ما فُهم على أنه تعزيز لمكانة سارابيا.
أما الشخصية الثانية التي فجّرت الأزمة بحجم يتجاوز ما أحدثته سارابيا، فهو أرماندو بينيديتي، مدير الحملة الانتخابية للرئيس بيترو في عام 2023، ومدير سارابيا عندما كان على رأس مكتب المحاماة الذي يملكه، وكانت هي ذراعه اليمنى.
انتهت علاقتهما بسبب خلافات شخصية ومعركة قضائية فُتحت ضدهما بعد سنة من فوز الرئيس بيترو، ووجهت لهما تُهم "استغلال النفوذ" و"حيازة مبالغ مالية غير قانونية". وتمّ التلميح في ذلك الوقت إلى استخدام أموال من عصابات المخدرات في حملة الرئيس.
رغم أنه تمّ إغلاق ملفات تلك التهم، إلا أن بينيديتي واجه دعوى أخرى في إسبانيا، تتعلق بتعنيف زوجته، ما جعله "شيطانًا" في نظر الصفوف اليسارية والحقوقية. وهو ما ضاعف الانتقادات الموجهة للرئيس بيترو الذي لم يتخلص منه رغم كل مشاكله.
مع كل هذا، تصدّر بينيديتي الاجتماع الوزاري، وجلس في المقعد المحاذي مباشرة للرئيس بيترو، نظرًا لتعيينه مديرًا لمؤسسة الرئاسة خلفًا لسارابيا، وسط موجة عارمة من الرفض من قبل أغلب الوزراء لوجوده على نفس الطاولة. لكن الرئيس برّر إصراره على تعيينه بـ "إعطائه فرصة ثانية"، إيمانًا منه بأنه شخصية يُعوّل عليها، واعترافًا له بوقوفه في وقت سابق إلى جانبه في مسيرته السياسية، حيث كان بينيديتي إعلاميًا وسياسيًّا مخضرمًا ورئيسًا للبرلمان في عام 2010.
علمًا أن الرئيس بيترو كان قد عيّن بينيديتي عند فوزه بالرئاسة سفيرًا لكولومبيا في فنزويلا، ثم ممثلًا لدى منظمة الأغذية والزراعة، في محاولة لتجنب ما يمكن أن يحدثه وجوده بين الوزراء.
رغم أن الأزمات المتلاحقة التي تعيشها كولومبيا تتطلب بشدة، حكومة متجانسة الرؤى وتركيبة وزارية تزخر بالكفاءات لخدمة البلاد، فإن الاجتماع الوزاري الذي تابعه جميع الكولومبيين، سهّل مهمة المعارضة، وحوّل أزمة الحكومة الداخلية وإصرار الرئيس بيترو على خياراته المثيرة للجدل، إلى مبرر جاهز لاتهام الحكومة ورئيسها بالفشل الذريع، وتبديد كل أحلام اليساريين في الفوز مرة أخرى بانتخابات عام 2026.